في زحام الأضواء وسباق النجوم، يظل الدكتور محمد الكنيدري حالة استثنائية في المشهد الثقافي المغربي، رجل اختار أن يكون في الظل، لكن بفعالية لا تخطئها العين. فمن الفيزياء النووية إلى مهرجانات الفنون الشعبية، ومن قاعات الدرس إلى ساحات الاحتفال، نسج الكنيدري مسارًا فريدًا جمع بين العلم، والتدبير، والوفاء للهوية المغربية.
ولد الكنيدري في قلب مراكش العتيقة، وتحديدًا في درب الحمام، حيث ترقد رموز التاريخ مثل القاضي عياض، وهناك نشأ الطفل اليتيم الذي سينقش اسمه لاحقًا في الذاكرة الثقافية للمدينة والمملكة. بدأ مشواره الأكاديمي بدراسة الفيزياء النووية، ثم انطلق في مسار مهني حافل، شغل خلاله مناصب علمية وتربوية مرموقة، من أستاذ جامعي إلى عميد، ثم وزير للتربية الوطنية.
لكن الكنيدري لم يكتف بذلك، بل وجه طاقته وخبرته نحو العمل المدني، فأسس جمعية الأطلس الكبير، التي تدير إلى جانب مهرجان الفنون الشعبية، عددًا من المشاريع الثقافية والاجتماعية والرياضية، التي تستهدف الشباب والفئات الهشة. وخلف الكواليس، ظل يشرف على أدق تفاصيل مهرجان الفنون الشعبية، أحد أعرق التظاهرات الفنية بالمغرب، حيث يظهر كـ”مايسترو” لا يعتلي المنصة، لكنه حاضر في كل مشهد.
طيلة أكثر من 54 سنة، واظب الكنيدري على خدمة التراث الشعبي بروح الباحث ودقة العالم، ساهم في توثيق الثقافة الشفوية، ودعم الفنون الأصيلة، وجعل من المهرجان منصة للتلاقي بين الأجيال والثقافات. كما أدار تظاهرات كبرى أخرى مثل ماراطون مراكش الدولي، ومهرجان كناوة شو، ومهرجان المواهب المتمدرسة، برؤية تعتبر الثقافة قوة ناعمة تليق بصورة المغرب.
حاز الكنيدري عدة جوائز وأوسمة، أبرزها وسام العرش من درجة ضابط، والدكتوراه الفخرية من جامعة بورغون الفرنسية، غير أن ما يميّزه بحق هو قدرته على الجمع بين التواضع والفعالية، بين البعد الوطني والالتزام المحلي، وبين الممارسة العلمية وحسّ الانتماء الثقافي.
في كل دورة للمهرجان، يتنقل بهدوء بين الفرق والمشاركين، يستمع، يوجّه، ويصحّح، ثم ينسحب بصمت تاركًا المنصة للفن، والتاريخ، والمغرب العميق. هكذا يرى فيه أبناء مراكش: ليس مجرد إداري أو مؤسس، بل حارس للهوية، ورجل وهب عمره للثقافة والمكان.
